فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}
هذا تصدير لذكر القصص التي أريد من التذكير بها الموعظة بما حلّ بأهلها، وهي قصة قوم لوط وقصة أصحاب الأيكة وقصة ثمود.
وابتدىء ذلك بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما فيها من كرامة الله له تعريضًا بالمشركين إذ لم يقتفوا آثاره في التوحيد.
فالجملة مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا وهو مرتبط بقوله في أوائل السورة: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} [سورة الحجر: 4].
وابتداء الكلام بفعل الإنباء لتشويق السامعين إلى ما بعده كقوله تعالى: {هل أتاك حديث الجنود} [سورة البروج: 17]، ونحوه.
والمقصود هو قوله تعالى الآتي: {ونبئهم عن ضيف إبراهيم} [سورة الحجر: 51].
وإنما قدم الأمر بإعلام الناس بمغفرة الله وعذابه ابتداء بالموعظة الأصلية قبل الموعظة بجزئيات حوادث الانتقام من المعاندين وإنجاء من بينهم من المؤمنين لأن ذلك دائر بين أثر الغفران وبين أثر العذاب.
وقدمت المغفرة على العذاب لسبق رحمته غضبه.
وضمير {أنا} وضمير {هو} ضميرا فصل يفيدان تأكيد الخبر.
واعلم أن في قوله تعالى: {نبىء عبادي} إلى {الرحيم} من المحسّنات البديعية محسّن الاتّزان إذا سكنت ياء {أني} على قراءة الجمهور بتسكينها، فإن الآية تأتي متزنة على ميزان بحر المجتث الذي لحقه الخبن في عروضه وضربه فهو متَفْعلن فَعِلاتن مرتين.
{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)}
هذا العطف مع اتحاد الفعل المعطوف بالفعل المعطوف عليه في الصيغة دليل على أن المقصود الإنباء بكلا الأمرين لمناسبة ذكر القصة أنها من مظاهر رحمته تعالى وعذابه.
و{ضيف إبراهيم}: الملائكة الذين تشكلوا بشكل أناس غرباء مارّين ببيته.
وتقدمت القصة في سورة هود.
وجملة {قال إنا منكم وجلون} جاءت مفصولة بدون عطف لأنها جواب عن جملة {فقالوا سلامًا}.
وقد طوي ذكر رده السلام عليهم إيجازًا لظهوره.
صُرح به في قوله: {قال سلام قوم منكرون} [سورة الذاريات: 25]، أي قال إنا منكم وجلون بعد أن رد السلام.
وفي سورة هود أنه أوجس منهم خِيفة حين رآهم لم يمدّوا أيديهم للأكل.
وضمير {إنا} من كلام إبراهيم عليه السلام فهو يعني به نفسه وأهله، لأن الضيف طرقوا بيتهم في غير وقت طروق الضيف فظنّهم يريدون به شرًا، فلما سلموا عليه فاتحهم بطلب الأمْن، فقال: {إنا منكم وجلون}، أي أخفتمونا.
وفي سورة الذاريات أنه قال لهم: {قوم منكرون} [سورة الحجر: 25].
والوجِل: الخائف.
والوجَل بفتح الجيم الخوف.
ووقع في [سورة هود:70] {نكِرهم وأوجس مِنهم خِيفة} وقد جُمع في هذه الآية متفرق كلام الملائكة، فاقتصر على مجاوبتهم إياه عن قوله: {إنا منكم وجلون}، فنِهاية الجواب هو {لا توجل}.
وأما جملة {إنا نبشرك بغلام عليم} فهي استئناف كلام آخر بعد أن قدّم إليهم القِرى وحضرت امرأته فبشّروه بحضرتها كما فُصّل في سورة هود.
والغلام العليم: إسحاق عليه السلام أي عليم بالشريعة بأن يكون نبيئًا.
وقد حكي هنا قولهم لإبراهيم عليه السلام، وحكي في سورة هود قولهم لامرأته لأن البشارة كانت لهما معًا فقد تكون حاصلة في وقت واحد فهي بشارتان باعتبار المبشّر، وقد تكون حصلت في وقتين متقاربين بشّروه بانفراد ثم جاءت امرأته فبشروها.
وقرأ الجمهور {نبشرك} بضم النون وفتح الموحدة وتشديد الشين المكسورة مضارع بشر بالتشديد.
وقرأ حمزة وحده {نَبْشُرُكَ} بفتح النون وسكون الموحدة وضم الشين وهي لغة.
يقال بشَرَه يبشره من باب نصر.
والاستفهام في {أبشرتموني} للتعجب.
و{على} بمعنى {مع}: دالة على شدة اقتران البشارة بمسّ الكبر إياهـ.
والمسّ: الإصابة.
والمعنى تعجب من بشارته بولد مع أن الكبر مسّه.
وأكد هذا التعجب بالاستفهام الثاني بقوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونِ} استفهام تعجب.
نُزل الأمر العجيب المعلوم منزلة الأمر غير المعلوم لأنه يكاد يكون غير معلوم.
وقد علم إبراهيم عليه السلام من البشارة أنهم ملائكة صادقون فتعين أن الاستفهام للتعجب.
وحذف مفعول {بشرتموني} لدلالة الكلام عليه.
قرأ نافع {تبشرونِ} بكسر النون مخففة دون إشباع على حذف نون الرفع وحذف ياء المتكلم وكل ذلك تخفيف فصيح.
وقرأ ابن كثير بكسر النون مشددة على حذف ياء المتكلم خاصة.
وقرأ الباقون بفتح النون على حذف المفعول لظهوره من المقام، أي تبشرونني.
وجواب الملائكة إياه بأنهم بشّروه بالخَبَر الحق، أي الثابت لا شك فيه إبطالًا لما اقتضاه استفهامه بقوله: {فبم تبشرون} من أن ما بشروه به أمر يكاد أن يكون منتفيًا وباطلًا.
فكلامهم رد لكلامه وليس جوابًا على استفهامه لأنه استفهام غير حقيقي.
ثم نهوه عن استبعاد ذلك بأنه استبعاد رحمة القدير بعد أن علم أن المبشّرين بها مرسلون إليه من الله فاستبعاد ذلك يفضي إلى القنوط من رحمة الله فقالوا: {فلا تكن من القانطين}.
ذلك أنه لما استبعد ذلك استبعاد المتعجب من حصوله كان ذلك أثَرًا من آثار رسوخ الأمور المعتادة في نفسه بحيث لم يقلعه منها الخبر الذي يعلم صدقه فبقي في نفسه بقية من التردّد في حصول ذلك فقاربتْ حاله تلك حال الذين يَيأسون من أمر الله.
ولما كان إبراهيم عليه السلام منزّهًا عن القنوط من رحمة الله جاءوا في موعظته بطريقة الأدب المناسب فنهوه عن أن يكون من زمرة القانطين تحذيرًا له مما يدخله في تلك الزمرة، ولم يفرضوا أن يكون هو قانطًا لرفعة مقام نبوءته عن ذلك.
وهو في هذا المقام كحاله في مقام ما حكاه الله عنه من قوله: {أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [سورة البقرة: 260].
وهذا النّهي كقول الله تعالى لنوح عليه السلام: {إني أعظك أن تكون من الجاهلين} [سورة هود: 46].
وقد ذكرته الموعظة مقامًا نسيه فقال: {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون}.
وهو استفهام إنكار في معنى النفي، ولذلك استثنى منه {إلا الضالون}.
يعني أنه لم يذهب عنه اجتناب القنوط من رحمة الله، ولكنه امتلكه المعتاد فتعجب فصار ذلك كالذهول عن المعلوم فلما نبّهه الملائكة أدنى تنبيه تذكّر.
القنوط: اليأس.
وقرأ الجمهور {ومن يقنط} بفتح النون.
وقرأه أبو عمرو والكسائي ويعقوب وخلف بكسر النون وهما لغتان في فعل قَنط.
قال أبو علي الفارسي: قَنَط يقنِط بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات.
قال تعالى: {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنَطوا} [سورة الشورى: 28].
قلت: ومن فصاحة القرآن اختياره كل لغة في موضع كونها فيه أفصح، فما جاء فيه إلا الفتح في الماضي، وجاء المضارع بالفتح والكسر على القراءتين. اهـ.

.قال الشعراوي:

{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)}
والخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والإنباء هو الإخبار بأمر له خطورته وعظمته؛ ولا يقال: {نبيء} في خبر بسيط، وسبق أن قال الحق سبحانه عن هذا النبأ: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم} [النبأ: 1-2].
وقال سبحانه أيضًا عن النبأ: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 67-68].
ونفهم من القول الكريم أنه الإخبار بنبأ الآخرة ما سوف يحدثُ فيها، وهنا يأتي سبحانه بخبر غُفْرانه ورحمته الذي يختصُّ به عباده المخلصين المُتقِين الذين يدخلون الجنة، ويتمتَّعون بخيْراتها خالدين فيها.
ولقائل أنْ يسأل: أليستْ المغفرة تقتضي ذَنْبًا؟
ونقول: إن الحق سبحانه خلقنا ويعلم أن للنفس هواجسَ؛ ولا يمكن أنْ تسلمَ النفس من بعض الأخطاء والذنوب والوسوسة؛ بدليل أنه سبحانه قد حَرَّم الكثير من الأفعال على المسلم؛ حمايةً للفرد وحمايةً للمجتمع أيضًا، ليعيش المجتمع في الاستقرار الآمن.
فقد حرَّم الحق سبحانه على المسلم السرقة والزِّنَا وشُرْب الخمر، وغيرها من المُوبِقات والخطايا، والهواجس التي تقوده إلى الإفساد في الأرض، وما دام قد حرَّم كل ذلك فهذا يعني أنها سوف تقع، ونزل منهجه سبحانه مُحرِّمًا ومُجَرِّمًا لمن يفعل ذلك، كما يُلزم كل المؤمنين به بضرورة تجنُّب هذه الخطايا.
وهنا يُوضِّح سبحانه أن مَنْ يغفل من المؤمنين ويرتكب معصية ثم يتوب عنها، عليه ألاَّ يُؤرِّق نفسه بتلك الغفلات؛ فسبحانه رءوفٌ رحيم.
ونحن حين نقرأ العربية التي قد شرَّف اللهُ أهلَها بنزول القرآن بها، نجد أقسامَ الكلام إما شِعْرًا أو نَثْرًا، والشعر له وَزْن وقافية، وله نَغَم وموسيقى، أما النثر فليس له تلك الصِّفات، بل قد يكون مَسْجوعًا أو غَيْرَ مسجوع.
وإنْ تكلمتَ بكلام نثريٍّ وجِئْتَ في وسطه ببيت من الشعر، فالذي يسمعك يُمكِنه أن يلحظ هذا الفارقَ بين الشعر والنثر، ولكن القرآن كلامُ ربٍّ قادر؛ لذلك أنت تجد هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها وتقرؤها وكأنها بَيْتٌ من الشعر فهي موزونة مُقفَّاة: {نَبِّئ عِبَادِي أَنِّي أنَا الغفورُ الرَّحيمُ}
ووزنها من بَحْر المُجْتث ولكنها تأتي وَسْط آيات من قبلها ومن بعدها فلا تشعر بالفارق، ولا تشعر أنك انتقلتَ من نثرٍ إلى شعٍر، ومن شعر إلى نثر؛ لأن تضامن المعاني مع جمال الأسلوب يعطينا جلال التأثير المعجز، وتلك من أسرار عظمة القرآن.
ثم يقول الحق سبحانه فيما يخص الكافرين أهل الغواية: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}
وهكذا يكتمل النبأ بالمغفرة لِمَن آمنوا؛ والعذاب لِمَنْ كفروا، وكانوا من أهل الغواية، ونلحظ أنه سبحانه لم يُشدِّد في تأكيد العذاب، ذلك أن رحمته سبقتْ غضبه، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق الرحمة يوم خلقها مائةَ رحمة، فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة، وأرسل في خلَقْه كلِّهم رحمةً واحدةً، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييئس من الجنة؛ ولو يعلم المسلم بكل الذي عند الله من العذاب؛ لم يأمن من النار».
ونلحظ أن الآيتين السابقتين يشرحهما قَوْل الحق سبحانه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} [الرعد: 6].
ولذلك نرى أن الآيتين قد نبَّهتا إلى مَقَامي الرجاء والخوف، وعلى المؤمن أنْ يجمعَ بينهما، وألاَّ يُؤجِّل العمل الصالح وتكاليف الإيمان، وأن يستغفر من المعاصي؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعامل الناس بالفضل لمن أخلص النية وأحسن الطوية. لذلك يقول الحديث: «لمَّا قضى الله الخَلْق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي».
ثم ينقلنا الحق سبحانه من بعد الحديث عن الصفات الجلالية والجمالية في الغفران والرحمة والانتقام إلي مسألة حسِّية واقعية تُوضِّح كل تلك الصفات، فيتكلم عن إبراهيم عليه السلام ويعطيه البُشْرى، ثم ينتقل لابن أخيه لوط فيعطيه النجاة، ويُنزِل بأهله العقاب.
يقول الحق سبحانه: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)}
وكلمة {ضيف} تدلُّ على المائل لغيره لقِرَىً أو استئناس، ويُسمونه المُنْضوي لأنه ينضوي إلى غيره لطلب القِرَى، ولطلب الأمن، ومن معاني المُنْضوي أنه مالَ ناحية الضَّوْء.
وكان الكرماء من العرب من أهل السماحة؛ لا تقتصر سماحتهم على مَنْ يطرقون بابهم، ولكنهم يُعلِنون عن أنفسهم بالنار ليراها مَنْ يسير في الطريق ليهتدي إليهم.
وكلنا قرأنا ما قال حاتم الطائي للعبد الذي يخدمه:
أَوْقِد النارَ فإنَّ الليْلَ لَيْل قُرّ ** والريحُ يَا غُلامُ ريحُ صِرّ

إنْ جلبت لنَا ضَيْفًا فأنت حُر